قصة إخبارية عالمية

مقال السفير البريطاني توماس رايلي حول السياحة المغربية

''السياحة تقوي أواصر ارتباطنا وتذكرنا بأن ما يجمعنا أكثر مما يفرقنا''

HMA Thomas Reilly

السيد توماس رايلي، السفير البريطاني لدى المغرب

وطأت قدماي المغرب في عام 1998 حين جئت كسائح، فتجولنا عبر حافلات قديمة كانت تتوقف بين الفينة والأخرى في المنعرجات لتُقل أناسا على سطحها وهم يمسكون بالخرفان من قرونها. تناولنا وجباتنا في رحاب أسواق والثعابين تتخثل بين أقدامنا. كنا نسقى مشروبات ونحن نمتطي ظهور الجمال على شطئان من الرمال الدقيقة والرقيقة: رمقنا من فوقها لحظات أنيقة عانقت فيها الشمس في غروبها صفحة المحيط الأطلسي فراودتنا أحلام هي لعمري أحلام الشباب المثالية.

أعجبني المغرب كثيرا فقرررت أن أعود مرة أخرى في عام 2000. فاستأجرنا في تلك المرة سيارة واستعنا بخدمات سائق لعبور المغرب بدءا من الصويرة، ونمُرّ بمراكش، قبل أن نُعرج على أكادير ونحط بعدها الرحال بمدينة شفشاون. لقد انخرطنا في تيه إرادي بين متاهات الممرات الجبلية التي لا تحصى ولا تكاد تستقصى. استسلمنا للنوم في رحاب دور المآوي الصغيرة التي تفرقت بها السبل بين الوديان العميقة. ألفينا وجود مجرى مياه تحمل بين أخاديدها دفق الثلوج الذائبة لتوها بعد أن كانت تدثر بردائها الأبيض هامات الجبال السامقة. سرنا ونحن نتلمس الطريق في مسارات دون أن تكون لنا وجهة معلومة. رقصنا ونقرنا على الطبول مع قبائل في عمق الصحراء. تساءلنا حينها كم من التشكيلات الجمالية تتنزّى وراء النسيج الصحراوي الطبيعي وما يمكن أن يخبئ هذا البلد في جعبته وفي مضايقه العميقة، فضلا عن الغنى الثقافي الذي تطفح به المدن التاريخية والحصون التي صارت رميما والمدن العتيقة المذهلة. علمت أن المغرب يضم 9 مواقع أثرية ُصنفت تراثا عالميا من طرف اليونيسكو، ولكن ما يثير استغرابي هو عدم وجود أكثر من ذلك العدد !

لقد كنت راضيا كل الرضا عن جميع رحلاتي وخطواتي بأرض المغرب ولم أتيم فقط بروعة الجغرافيا وعَبق التاريخ، بل امتد إعجابي ليلتحم بروح الترحاب المغربي وكرم الضيافة وبمجتمع مضياف، متسامح وكريم، متشبع بهذه القيم التي تعتبر قيمة مضافة تُثري مرامي تطوير الصناعة السياحية. لم أكن أحلم يوما أن أحظى بامتياز الرجوع للمغرب كسفير بريطاني، بعد 20 عاما من زيارتي الأولى.

ويبدو أنني لست الوحيد الذي بلغ به التيه بالمغرب محله، حيث وجدت أن عدد من البريطانيين يتقاسمون معي هذا الإعجاب بالجمال الطبيعي والتنوع اللذين يطبعان المغرب. فالشراكة البريطانية مع المغرب ممتدة في الزمن، فلا تزال هناك جالية بريطانية مهمة بطنجة، عروس الشمال الجذابة والتي تجذب مدينتها القديمة بشكل مضطرد أعدادا غفيرة من السياح البريطانيين مِمّن تستهويهم أيضا مآثرها التاريخية وحنطها الحرفية وكذا شواطئها فضلا عن قربها الجغرافي. لما زرت في فبراير من السنة الجارية المغرب بمعية أسرتي ليتعرفوا على البلد التي سيحلون بها، وجدنا أن الرياض الذي نزلنا به بمدينة مراكش كان ممتلئا بالسياح البريطانيين. فلا عجب أن المغرب يحتل المرتبة الثالثة للوجهات السياحية الأكثر شعبية بالنسبة للسائحين البريطانيين خارج الاتحاد الأوروبي ( بعد كل من الولايات المتحدة و تركيا)، كما أن السياح البريطانيين يأتون في المرتبة الثالثة من بعد الفرنسيين والإسبان، ويعتبرون وصيفا للدولة التي تقضي أكبر عدد من المبيتات بمؤسسات الإيواء السياحي، حيث ساهم السياح البريطانيون بما يناهز مليار درهم ضخت في أوصال الاقتصاد المغربي وفق الإحصائيات التقريبية برسم الأشهر الستة الأولى من عام 2017.

هذا القرب يعتبر جزءا من جاذبية المغرب وقوة جذبه السياحي: فقد عدت من الرباط إلى المملكة المتحدة في يونيو، فكانت أربع ساعات فقط كافية لأجد نفسي أمام باب بيتي في ريف هامبشاير. وعندما يلتقي القرب بالتنوع الذي يسم المجال الحضري ويجعله مغايرا للمجال القروي، فإننا نفهم دون عظيم عناء سر تقاطر 610.000 سائح بريطاني يُيمِّمُون شطر المغرب. فالمغرب له من المقومات وله من الطاقات ما يجعله بلدا معطاء وواعدا ، ومن ذلك المنطلق أردت ان أتعهد برفع العدد ليصل إلى مليون سائح بريطاني سنويا، وتقاسمت هذا الطموح المشترك مع الحكومة المغربية التي تروم تحقيق رقم 20 مليون سائح في أفق رؤية 2020 مع رفع تصنيف المغرب وفق ذات الرؤية ليصبح ضمن 20 أكبر وجهة سياحية في العالم. لقد أخذت مخايل هذه الرؤية تتحقق رويدا رويدا، حيث تم تسجيل تقدم بنسبة 20 في المائة في سِجل الوافدين الدوليين خلال النصف الأول من السنة الجارية، ولي الثقة أن هذا المنحى التصاعدي سيستمر لا محالة، خاصة في ظل رفع عدد الرحلات الدولية التي تربط المغرب بعدد من الوجهات في العالم بأسره.

لا حاجة للتذكير بالمنافع الإقتصادية المباشرة التي يذرها قطاع السياحة، حيث تشكل السياحة لوحدها 10 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، و 20 في المائة من الناتج الداخلي الخام للمغرب (على سبيل المقارنة، يمكن أن نقارنها بالوجهات السياحية الأوربية الأكثر إقبالا لنلفي أنها تشكل نسبة 14.2 في المائة من الناتج الداخلي الخام لإسبانيا و8.9 في المائة من الناتج الداخلي الخام لفرنسا). وللسياحة دور كبير في تنويع الامتيازات الإقتصادية حيث تفيد الأبحاث أن الأشخاص الذين يفدون إلى دولة أجنبية كسواح تبلغ نسبة احتمال عودتهم لاحقا كمستثمرين 13 في المائة، بما يزيد من العوائد الاقتصادية حيث أن تدفق السواح يؤمن مداخيل و فرص شغل إضافية وأرباحا في المبادلات. فالسياحة بهذا المعنى يمكن أن تشكل رافعة للتنمية المستدامة وأن تساهم في تحقيق شروط الرفاه وتحسين ظروف عيش المجموعات البشرية وتساهم في حماية البيئة والمحيط الطبيعي.

في اعتقادي، لا يمكن محض الحديث عن السياحة في منأى عن سياق ارتباطها بمستوى العلاقات التي تجمع بين بلدين: فالسياحة المسؤولة تكسر جدار الاختلاف الثقافي (سواء تعلق الأمر بالبلد المضيف أو بالسائح نفسه)، لتفتح الأبواب مُشرعة على أنماط عيش أخرى، وتؤشر على خارطة طريق الفرص وتذلل الصعاب في وجه الائتلاف والتفاهم والتقدير المتبادل: في ميدان السياحة، فالكل سفير لثقافته والكل مسؤول عن تقديم الآخر لنفسه ولمواطنيه وملزم بذلك. وفي رأيي، فإن تشجيع المزيد من السياح البريطانيين على اختيار المغرب كوجهة لهم لا يحقق فقط مزيدا من “الصحة الإقتصادية” للمملكة، بل سيشكل أيضا دعامة مباشرة لتقوية العلاقات الثنائية بين بلدينا ويحض على الاستثمار البريطاني بالمغرب.

فالسياحة بكل هذه المعاني إثراء لحياتنا، ودعامة لتراص مجتمعاتنا ولتحسين فرص اقتصادنا، وكسر جميع الحواجز والمثبطات. فالسياحة تقوي أواصر ارتباطنا وتذكرنا بأن ما يجمعنا أكثر مما يفرقنا، وأن هذا الأمر يعتبر في مُحصلة الأمر من صميم المهام المنوطة بالسفير.

تاريخ النشر 21 September 2017